ما أجمل ذكريات الطفولة ,, المليئة بالبراءة والخيال الجامح ,, فكم كان
الخيال جامحا ,, بدأت رحلة القراءة بالإستماع , فكنت قبل أن أدخل المدرسة
وأتعلم القراءة , أقرأ واحفظ القران الكريم في كتّاب القرية , هذا في
النهار , أما في الليل فكنت أستمع من والدي قصة نبي من الأنبياء أو صحابي
من الصحابة ,, قبيل النوم وأنا مستلقي على الوسادة ,, وكذا من والدتي
ولكنها كانت مختصة بالقصص الخيالية التي كانت تؤلفها لتحكي لي فيها عن ما
أقوم بفعله من خطأ وصواب في يومي , وكان أبطال القصة دائما هم ( أحمد و
مرمر ) , كان دائما بطل قصصها "أحمد" مشاكسا (ومش بيسمع الكلام) وكنت عندما
أقوم بفعل غير مناسب , كانت في ليلتها تحكي لي قصة "أحمد" وتحكي عن ما
فعله هذا اليوم , وكانت أحيانا تفسر فعل كنت فعلته تفسير خطأ , فأقول لها
لا يا أمي إن أحمد - بطل القصة - فعل كذا وكذا , فأصحح لها قصتها التي
ترويها هي !! , وكنت كثيرا أنا وأختي - الموصوفة أيضا بمرمر - ما نسألها
:من الذي يخبرك عن ما فعله ويفعله "أحمد" و "مرمر" .. فتخبرنا أن
(العصفورة هي من أخبرتها ) , وفي ذات صباح من يوم مشهود !! , وجدنا عصفورا
ميتا في فناء بيتنا , فهللنا وفرحنا أنا وأختي , فسألتني أمي عن السب ,
فأخبرناها أن "العصفورة" ناقلة الأخبار قد "قتلت" ووجدناها ميتة .
وحينما كان يأتي المساء , وأحيانا - بل كثيرا -كان ينقطع التيار الكهربائي ,
كانت فيه فرصتي الذهبية , لأطلب من والدي أن يحكي لي قصة , وكان والدي -
كعادته - سخيا كريما معي , وكانت أغلب قصصه تحكي عن الأنبياء والرسل ,
واكثر قصة كنت أحب سماعها هي قصة نبي الله زكريا ونشره بالمنشار في داخل
الشجرة !! .
دخلت المدرسة وتعلمت الكتابة والقراءة , لا أدري أيهما تعلمته أولا ! ,
فكان موطني المفضل هو مكتبة المدرسة الإبتدائية , في الصف الأول تقريبا أو
الثاني كنت فيه ارتاد جناح في المكتبة إسمه (المكتبة الخضراء) , كان عبارة
عن ركن في المكتبة ذو قصص ذات أغلفة خضراء اللون , مليئة بالصورة , جذابة
المنظر , كتب أطفال , كلها كتب .. خيالية !! , تحكي عن الغابة وما فيها وعن
السندباد والمصباح السحري ,, إلتهمتها أجمعها ,, وكنت نهما , فلم يكن
يكفيني في اليوم كتابا أو خمسة كتب , بل كنت أستعير يوميا كتابا أخضرا ,
أقرأه في منزلي على مهلي .
وجائت المرحلة الإعدادية , وتغير الفكر ونمى , وكان فكري خياليا جدا ويهوى
كل غريب ونادر , كنت أهوى كتب الأطباق الطائرة , والرحلات النادرة ,
والأشعار الساحرة , ووقتها بدأت أتقبل الكتب الموجودة في مكتبة والدي ,
وخاصة تلك الموجودة في الصندوق الخشبي , التي كانت مخزنا لكتب والدي , فكان
في منزلنا عشرات بل مئات من الكتب , منذ مرحلتي الإعدادية وانا التهمها ..
واولها كان سلسلة "البداية والنهاية" لابن كثير , ذات الثماني أجزاء ,
أخذت مني أكثر من عام أو اثنين , وانهيتها أجمعها ومن يومها صار لدي مخزون
تاريخي محترم .وجاءت الثانوية العامة , ونمى العقل ونضج , وصار يستهويني
علم التاريخ , والسيرة النبوية وكتب الفلسفة الشرقية والغربية , والحضارات
البائدة ,, فأذكر حينها أني ذهبت لاستاذ المكتبة وسألته عن كتاب خاص بحضارة
"المايا" فقال لي "من هم المايا" , فعجبت وضحكت منه , أأستاذي لا يعرف من
هم (المايا) !! .
ومنّ الله علي بالكمبيوتر , وما أجلّه من إختراع . مكنني من الإطلاع على
مئات ,, بل لا أكذب إن قلت ألوف من الكتب , ,في شتى المجالات والإهتمامات
,, بداية من كتب الشعر وإنتهاء إلى كتب السحر أبيضه وأسوده .
وإن حبي للقراءة سبب لي كثير من المتاعب , فقد جعلني معزولا عن العالم
ومحبا للوحدة والانقطاع في المنزل ,, للقراءة ,, حيث كانت لي طقوس خاصة في
القراءة .. فكنت في وقت الظهيرة والقيلولة - قليلا ما أنام - كنت أجلس على
الأرض بجوار الصندوق الخشبي , ,وأقرا فيه ما أشاء ,, فإن وجدت كتابا أعجبني
,, كنت لا أقرائه بل ( أركنه ) لوقت العصر ,, وما أدراك ما وقت العصر ,,
بعد العصر بساعة , كان في منتصف دارنا بجوار سلم المنزل سريرا كبيرا .. لا
يحده سقف .. ولكن تظلله السماء والقمر الذي كان موعد ميلاده في السماء هو
موعد جلوسي المفضل ,, كنت أجلس عليه واقرأ وأنا مستلق - وهذه عادة ضارة -
ما أشاء ,
وأخيرا .. نحمد الله على نعمة النظر .. التي مكنتنا من أن نتعلم ونقرأ ..
مثلما قال الله في كتابه الكريم (( إقرأ )) .. والحمد لله أن سخر لي والد
ووالدة , علموني أن أقرأ .
وصدق الشاعر أبو الطيب المتنبي حين قال :
أعز مكان في الدنا سرج سابح ... وخير جليس في الزمان كتاب
....................................
كتبه .. أحمد عبد النبي فرغل .. الدعباسي .