تفسير عجيب ربما لم تقرأوا مثله من قبل: (وقفة متأملة مع
حادثة موسى والخضر)
أعيروني أسماعكم: اليوم جمعة، وهو يوم قراءة وتدبّر
لسورة الكهف كما جاء في السنة المشرّفة، وكما علِمنا فإن السرد القرآني لا يكون
اعتباطاً، بل بتناسق، وترتيب: تصاعدي أو تنازلي، من الأكبر للأصغر أو العكس، من
الأعظم للأدنى عظمة أو العكس، من الأكثر أهمية للأقل أو العكس.
اليوم نذهب للآيات التي سردت ما جرى مع نبي الله موسى
والعبد الصالح، الذي أراد موسى - عليه السلام - أن يتعلّم منه، فكان الدرس العظيم،
درس لم أنتبه له من قبل، حتى أنبهني له درس استمعت له من عالم سوداني اسمه الشيخ
"حامد آدم"، وكان ذلك الشيخ ساحراً، يستعين بالجن، ففضحهم وفضح أساليبهم
وأساليب مدعي القطبانية والولاية من بعض المتصوفة. فكان مما تعلمته منه ومما أضفته
إليه من تأملّي لسيرة حياة نبي الله موسى عليه السلام:
أن الخضر طلب من موسى ألّا يسأله عن شيء: لِم فعلته ولِم
لَم تفعله؟ فكأنه أشار إلى أشياء فعلها موسى أو فُعلِت له، لحكمة أرادها الله له
أو لغيره. وقد لا يستبين الهدف من هذه الحكمة في وقت حدوثها، إنما قد يتأخر بيانها
لزمن. فقال له: (قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى
أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا).
فكانت بداية أحداث رحلتهم مشابهة لبداية أحداث رحلة
موسى، وقت أن كان رضيعاً مع أمه. حيث كان وراءه "فرعون" يقتل كل طفل
غصباً، فأراد الله أن يُنجي الرضيع من فرعون، وكان تحقيق هذه الغاية بوسيلة ظاهرها
الشر، وهي إلقاء الطفل في تابوت في الماء، وباطنها الرحمة. إذ كانت النتيجة بعد
لطف الله أن ذهب التابوت بالطفل حتى ساحل بيت فرعون، لينقذه الله بعدها من يدي
فرعون ومِن الغَرق.
فركب الخضر سفينة كان أصحابها مساكين (مثل موسى وأمه)،
وكان وراءهم ملك (مثل فرعون) يأخذ كل سفينة غصباً، فكان تحقيق نجاتهم بنفس وسيلة
انقاذ موسى، وهي تعريضهم للغرق، بإخراق السفينة، وفي ظاهر هذا الفعل شر، ولكن في
باطنه الخير، حيث سيرى الملك الظالم هذه السفينة ولن تعجبه لأنها مخروقة معيوبة،
فيتركها لهم، ويغنم أهلها وتعود لهم سفينتهم كما عاد موسى لأمه من قبل.
قال الله تعالى: (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي
السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ
شَيْئًا إِمْرًا). وكان التعليل في نهاية الرحلة: (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ
لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ
وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا).
وأما أوسط حكايتهم فشبيهة بأوسط حكاية نبي الله موسى،
عندما وجد رجل من شيعته يقاتل رجلاً من شيعة فرعون "رجل كافر" فقتله
موسى، وكان هذا تدبير إلهي للحد من إجرام ذلك الرجل. ولم يكن يعلم موسى ذلك، فقد
خاف من القصاص لأنه قتل نفساً بغير نفس، ولم يكن يعلم أن هناك نفوس يقتلها الله
بغير نفس لغاية إلهية.
فمضى الخضر حتى وجد غلاماً، يبدو في ظاهره أنه غلام بريء
لا ذنب له، إلّا أن الخضر قتله، فلامه موسى، ثم جاء التعليل في نهاية الرحلة بأن
ذلك الغلام كان إن كبر سيصبح فاجراً كافراً ويرهق أبويه المؤمنين، فأراد الله أن
يبدلهما بمن هو خير منه. ولعل ذلك مشابه بمؤمن آل فرعون الذي كان خيراً من ذلك
الرجل المقتول والذي هو من شيعة فرعون أيضاً، وإن شر الناس لرجل قتل نبياً أو قتله
نبي، كما جاء في الحديث الشريف.
قال الحق سبحانه وتعالى: (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا
لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ
لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا). وكان التعليل: (وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ
أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا *
فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ
رُحْمًا).
وأما آخر حكايتهم فكانت شبيهة بموقف لم يكن من آخر حكاية
رحلة نبي الله موسى، ولعله لو صبر معه لرأى تأويلات مشابهة لبقية ما جرى مع موسى
طوال حياته. فعندما ذهب موسى لأرض مدين، وجدت امرأتين لا تقدران على سقيا الماء،
فسقى لهما ولم يسأل عن الأجر، وكان السبب الخفي لذلك هو صلاح أبوي المرأتين، فيسّر
الله له من يسقي لابنته دون أجر، رغم أن بقية الرعيان كانوا قوم سوء ولم يساعدوا
الفتاتين.
وكذلك لما ذهب الخضر لقرية القوم اللئام، وجد الجدار معرض
للسقوط، فأقامه بدون أن يأخذ أجراً على ذلك، فلامه موسى بسبب ظاهر ما رآه من سوء
أخلاق تلك القرية. فكان التعليل أن موسى من قبل سقى للفتاتين ولم يسأل عن الأجر
رغم أن أهل تلك البلدة "رعيان مدين" كانوا قوم سوء، وأن الله سبحانه وتعالى
أراد أن يحدث ذلك كرامة لأب الفتاتين الصالح، وكذلك أراد الله أن يحفظ الكنز الذي
تحت الجدار للغلامين (العدد 2 مثل المرأتين) بسبب صلاح أبيهم، فهيء لهم مَن يُقيم
لهم الجدار حتى يكبروا ويستخرجوا كنزهم بأنفسهم، فلله أسباب يهيئها، وأقدار،
ظاهرها قد لا تتقبله النفس، ولكن باطنه الرحمة والعدل، فسبحان الملك.
قال الحق تعالى: (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا
أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا
فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ
لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا). وجاء تعليل ذلك: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ
لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا
وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا
وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي
ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا).
ونقول: يا ليت موسى صبر، حتى نرى تفسيرٍ لكثير من أحداث
وقعت مع موسى، إما فعلها هو أو فُعِلت له، ولم يعلم موسى تأويلها وأسبابها، وكنا
سنتعلم حينها، ولكن قدّر الله وما شاء فعل. قال الحق سبحانه وتعالى: (كِتَابٌ
أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو
الْأَلْبَابِ) صدق الله العظيم.
وكتبه/ أحمد عبد النبي فرغل الدعباسي - ظهيرة الجمعة
تاسوعاء محرم عام 1442 هـ.