الثأر
في الصعيد (الإرث القديم والحاضر الأليم)
والعرب لا
يصبرون على الثأر ولا ينامون عنه، حتى أن الثأر وحده لم يكن يكفيهم، وإنما كان
(الثأر المُنيم) هو الكفاية لهم، والثأر المُنيم هو الثأر الذي يُرضي أصحابه ويقر
عيونهم ويجعلهم ينامون ويكفّون عن المطالبة بمزيد من الدماء، وهذا في حال كان
القاتل ليس من أكفاء القتيل، فحينها يتحتم على أهل القتيل أخذ الثأر من رجل كفء من
أقارب القاتل، ويظهر هذا الأمر جلياً في الحرب التي عرفت بإسم "الفِجار"
والتي شهد النبي صلى الله عليه وسلم بعض أيامها، وكان مبدئها أن رجل من قبيلة
كنانة منبوذ مطرود، قتل "عروة الرحال" سيد قبيلة هوازن، ولم يكن كفء له،
وحينها أصّرت هوازن من الثأر وقتل أحد سادة كنانة وقريش لتتحقق الكفاءة، فكانت هذه
الحرب الطاحنة.
كثيراً ما ثارت
الحروب لأسباب تافهة، منها قيام الناقة "سراب" بتدمير عش "يمامة"
كانت تنعم بالحياة في حِمى "كليب بن ربيعة التغلبي" سيد العرب في زمانه،
فقام كليب بقتلها، رغم أن "سعد" صاحب هذه الناقة كان جاراً للبسوس بنت منقذ "خالة" جساس بن مرة
الشيباني، وهو صهر وابن عم كليب، ثم قام جساس بقتل كليب إنتقاماً لناقة جار خالته!،
فنشبت حرب ضروس سُميّت بالبسوس، استمرت أربعين عاماً، وأتت على الأخضر واليابس.
وكذلك حرب أخرى، قامت بسبب سباق بين حصان "داحس" وفرس
"الغبراء"، فنشبت الحرب الطاحنة التي عُرفت بحرب داحس والغبراء، والتي
تشائم منها الناس فقالوا: (إنه يوم أغبر) و(إنه يوم مدوحس).
ترسّخت هذه
العادة "الثأر" في نفوس قبائل العرب من قحطان وعدنان ومن تَخلّق
بأخلاقهم من الناس، وانتقلت معهم حيثما ساروا وأناخوا، وكان نصيب صعيد مصر كبيراً
من هجرات القبائل العربية إليه، وكذا كان نصيبه كبير "ومرير" من حوادث
الثأر والقتل والدماء !.
وكما حمل
العرب إلى صعيد مصر عادة الثأر التي لم تكن مترسّخة عند عموم أهل مصر، فإنهم حملوا
عادات وأعراف مُتعلقة بهذه العادة، ومنها عادة قديمة قد زالت مع مرور الزمان، وهي
عدم القتال في الأشهر الحُرم، وعادات أخرى لا زالت موجودة حتى يومنا هذا، وعادات غيرها
تم ابتداعها، ومن تلك العادات جميعاً: أن حق الطلب بالثأر لا يتقادم، وفيه قالوا:
"تعجّلت يا من أخذت ثأرك قبل أربعين عاماً"، ومنها أن من يتولى الأخذ
بالثأر هم أبناء القتيل ثم اخوته الأشقاء ثم اخوته غير الأشقاء ثم أبناء العمومة
الأقرب نسباً إليه .. وهكذا، أما الأخوال فلم يكن لهم في هذا الأمر ناقة ولا جمل
!. وقد يقوم بعض الناس باستئجار من يأخذ لهم بثأرهم ويدفعون له أموالاً كثيرة،
ويُعد هذا الفعل من النقائص التي يُعاب بها فاعلها.
وفي كل
الأحوال وعندما يتم الأخذ بالثأر فإن أهل القتيل يقومون بأخذ العزاء في قتيلهم
وذبح الذبائح ابتهاجاً وإعلاناً بإدراكهم ثأرهم، حيث أن من يُقتل لا يتم أخذ عزاء
فيه إلا بعد أخذ الثأر له.
تلتزم بعض
القبائل براي الشرع الكريم في معاقبة القاتل فقط، وعدم قتل أحد بجريرة غيره،
والبعض لا يلتزم بهذا، فيقتلون أحد أكابر أسرة القاتل، بل قد لا يكتفون بشخص واحد!.
وهناك من يقبل بأخذ الديّة "في حالات القتل الخطأ خاصة" وهناك من
يرفضها، وهناك من يرضى بحَمل أو قبول "القودة"، والقودة هي أن يقوم
القاتل بحمل كفنه على يده، ويذهب حافياً غير ناعل ولا معتم بعمامة، إلى أهل
القتيل، طالباً الصفح منهم، وفي الغالب يكون الصفح، وبعض القبائل تُفضّل الموت على
أن يحمل أحد رجالها "القودة"، ويرونه عاراً كبيراً، ولكن هذا الأمر
"القودة" أسهم بدرجة كبيرة في الحد من إراقة مزيد من الدماء في أرض مصر.
ومن الأعراف المتوارثة أيضاً عدم التعرُّض للقاتل إن كانت بصحبته نساء أو أطفال،
ويُوصم من ينتهك هذا العُرف "بالعيب الأسود"، وأكثر البلاد حِفاظاً على
هذا المبدأ هو اليمن السعيد.
ومن أدبيات
الثأر إن صحّ التعبير في المجتمع الصعيدي: عدم المساس بالقاتل إن جاء إلى بيت
القتيل بصحبة ضيف غريب، في حال كان يُرشده إلى منزل أهل القتيل، أو لأي سبب آخر،
وهي أخلاق حميدة. وعند بعض المجتمعات والقبائل الصعيدية يسقط دم القاتل في حال مات
في السجن، أو هرب ومات بعيداً، فيكفيه ما لحق به من عار وفضيحة الهروب والجُبن.
الثأر في
الإسلام: لم يعرف الإسلام إلا القصاص العادل بين الناس، فالجميع سواء في الإسلام،
لا فرق بين هذا وذا، فيقول الحق تبارك وتعالى: (كُتب عليكم القِصاص في القتلى
الحُر بالحر والعبد بالعبد) وأيضاً (ولكم في القِصاص حياة يا أولي الألباب).
ومما يؤسف له
تباطؤ وربما تعطيل حد القصاص من قِبَل الحكومات، مما يجعل القاتل يُفلت بجرمه
دونما عقاب عادل، وهذا ما يجعل أهل القتيل يثأرون بأنفسهم من القاتل، فيختل بذلك
النظام والأمن في المجتمع، إذ أن الصحيح أن يتولي ولي الأمر "الحكومة"
مهمة القصاص وليس أهل القتيل.
وكذلك كان
لإنتشار الأسلحة في الأونة الأخيرة دور كبير وخطير في تزايد جرائم الثأر والقتل في
صعيد مصر، فمن الكارثة أن يصل السلاح – بهذه الكثرة – إلى أيدي أقوام كان أجدادهم
وأسلافهم يقولون: (إنّا لنؤثر السلاح على اللقاح، والجياد على الأولاد)، فحريٌ
بأولي الأمر منع انتشار وتهريب الأسلحة بهذه الصورة، والارتقاء بالوعي الثقافي
والديني لما له من دور فعّال في تحجيم هذه الظاهرة.
وقبل الختام
تحضرني هنا قصة الرجل الذي أدرك ثأره وهو ميت! (لا تتعجبوا فهذا أمر قد وقع بالفعل!)،
وهو الشاعر الفارس العربي الجاهلي الشهير (الشنفرى الأزدي)، صاحب "لامية
العرب" القصيدة الشهيرة، وهو العدّاء الشهير الذي كان يسبق الخيل وأحد
الشعراء الصعاليك، فقد نذر "الشنفرى" أن يقتل مائة رجل من قبيلة "بني
سلامان"، وكانوا قد قتلوا والده.
بدأ الشنفرى
في اقتناص ضحاياه واحد تلو الآخر حتى قتل تسعة وتسعين رجلاً، ثم أدركه بنو سلامان
بعدها وقتلوه، ولكن بعد أن تحلل جسد الشنفرى ولم يتبق منه سوى عظامه، قام رجل من
بني سلامان بالوقوف فوق ما تبقى من جسده، وركل جمجمة الشنفرى بقدمه، فانغرست في
رجله إحدى عظام الجمجمة، فتسببت له بجرح وورم كبير، انفجر في النهاية ومات بسببه
هذا الرجل، وحينها قالت العرب: (قد أدرك الشنفرى ثأره، وأوفى نذره، وأتم الـ 100
رجل!).
وكما ذكرنا
اليمن بلد الأعراف والتقاليد، فإننا نختم بحكاية جرت فيه، حيث تم قتل مُعلم مصري
كان يُقوم بتدريس أبناء أحد قبائل اليمن، وعندما قُتل أصرّت القبيلة التي كان
يُعلّم أبناءها أن تثأر له، ولكن بطريقتها هي!، إذ عزمت على قتل "مُعلم
آخر" كان يقوم بتدريس أبناء القبيلة الأخرى "المعتدية"، وقالوا: (لابد
أن نقتل مُدرّسهم كما قتلوا مُدرّسنا). نسأل الله اللطف والسلامة لمصر واليمن
وسائر بلاد المسلمين، وأن يحقن دمائهم ولا يجعل بأسهم بينهم.
أحمد
عبد النبي فرغل الدعباسي
عضو
اللجنة العلمية لبحوث التاريخ والأنساب بالسجادة العنانية العمرية
الخميس
14 يناير 2016 م