التقويم القبطي: وآثاره الحَسَنة عند المصريين
تَذكر لنا معاجم وقواميس
اللغة أن "التقويم" هو حساب الزمن بالسنين والشهور والأيام، وقد عرفت
شعوب الأرض عدد من التقاويم المختلفة، وفي زماننا هذا شاع استخدام التقويم
الميلادي الذي يبتدأ بيوم ميلاد السيد المسيح عليه السلام، وقد اختلفت الكنائس
المسيحية "خاصة الأرثوذوكس والكاثوليك" في تحديد يوم الميلاد، والتقويم
الثاني من حيث الإستخدام في بلاد العرب والإسلام، هو التقويم الهجري، الذي مبدأه
يوم الهجرة النبوية في غُرة المحرم من كل عام هجري، والتقويم الثالث هو التقويم المعروف
بالتقويم القبطي، أي تقويم أهل مصر من لدن المصريين القدماء "الفراعنة"
وحتى يومنا هذا، و"القبط" هم المصريون زمن الفتح الإسلامي لمصر، سواء من
دخل منهم في الإسلام أو من بقي على دينه.
ينقسم العام إلى إثني عشر
شهراً، وأخبرنا مولانا عز وجل عن هذا في القرآن الكريم، حيث جاء في سورة التوبة –
الآية 36 – (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي
كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ).
تتعاقب الفصول بين شتاء
وصيف وحر وبرد وجفاف وخِصب، فتتنوع تقسيمات الفصول بين تقويم كل بلد وآخر، فتم اعتماد
تقسيم الفصول عند "أهل مصر" على أهم ظواهرها الطبيعية والمناخية، ألا
وهو "فيضان النيل" أو ما يُعرف بفصل "الدَمِيرة" حيث تأتي
المياه مُحمّلة بالطمي فتُدمر البلاد تدميراً، ويكون في هذا الشر
"الظاهر" خيراً "باطناً" كثيراً .. فسبحان مولانا القدير
الخبير.
يُخبرنا أبو الحسن
المسعودي – المتوفى سنة 346 هـ - في "التنبيه والإشراف" عن كون
"توت" هو أول شهور السنة القبطية، وأن أول أيامه هو يوم "النوروز
القبطي"، قلت: "النوروز" كلمة فارسية تعني "اليوم الجديد"،
وتم تعريبها فصارت "النيروز".
ويُتابع المسعودي سرده
فيقول: ثم يأتي من بعده شهر بابه، ثم هاتور، ثم كيهك، ثم طوبه، ثم أمشير، ثم
برمهات، ثم برموده، ثم بشنس، ثم بؤونة، ثم أبيب، ثم مسرى، وفي آخر مسرى تكون
الأيام الخمسة "الكبيسة". وقد نَظَم الشاعر "ابن حبيب الحلبي"
– ذكره السخاوي في "الضوء اللامع" – أسماء تلك الشهور القبطية في قالب
شِعري، حيث قال:
برمهات برمودة وبشنس ... وبؤون أبيب مسري الحرور
ثم توت
وبابة وهتور ... وكيهك وطوبة أمشير
امتاز
هذا التقويم بإعتماده على التغيّرات المناخية وأنواع المزروعات الصيفية والشتوية،
فكان بحق (تقويماً قويماً)، وقد نَقَل الحسن الصفدي – المتوفى سنة 717 هـ - في
"نزهة المالك والمملوك" عن أحد العلماء أنه قال: (طفت البلاد، ودرت
الأقاليم بأسرها، فما رأيت مثل رطب توت، ورمّان بابه، وموز هتور، وسمك كيهك، وماء
طوبه، وخروف أمشير، ولبن برمهات، وورد برموده، ونبق بشنس، وتين بؤونه، وعسل أبيب،
وعنب مسرى) اهـ. وكذا نقله بنصّه المقريزي – المتوفى سنة 845 هـ - في "الخطط
المقريزية".
وجاء
أيضاً بصيغة مقاربة في "حُسن المحاضرة" لجلال الدين السيوطي – المتوفى
سنة 911 هـ - أن بعض من سكن مصر قال: (لولا
ماء طوبة، وخروف أمشير، ولبن برمهات، وورد برمودة، ونبق بشنس، وتين بؤونة، وعسل
أبيب، وعنب مسرى، ورطب توت، ورمان بابة، وموز هاتور، وسمك كيهك، ما أقمت بمصر)
اهـ. وقد سَبَق ابن يعقوب الكندي المصري – من أهل القرن الرابع الهجري – جلال
الدين السيوطي بتلك الرواية "بنَصِّها"، إذ ذكرها في "فضائل مصر
المحروسة"، ولعل الأخير نقلها عنه!.
ومما
يُنسب إلى المصريين القدماء، وتردد كثيراً على ألسنة المصريين، قولهم: (من يشَتّي
على قَصَب، ويدمّر على بَلَح، ويصيف على عنب .. منين ياجيه المرض؟)، والقصب من
المزروعات الشتوية، والبلح ينضج في موسم الفيضان "الدميرة"، والعنب من
فاكهة الصيف.
وبعد
هذا السرد الطويل: لابد أن نتعرف سوياً على "حكاية" كل شهر من شهور
السنة القبطية، ولنبدأ بما بدأ به القبط تقويمهم:
1-توت
(11 سبتمبر – 10 أكتوبر) : شهر الرطب، إذ يأتي أوانه عقب شهر نضوج التمر، وفيه
يكون جَني زراعات الصيف.
2-بابه
(11 أكتوبر – 10 نوفمبر) : شهر الرمّان، وفيه تتم زراعة الفول والحِلبة والبرسيم،
ويُسمّى هذا الفعل – بَذْر الحبوب بعد انحسار مياه الفيضان – بـ (اللِوِّيق).
3-هاتور
(11 نوفمبر – 9 ديسمبر) : شهر الموز، وقيل فيه (هاتور فيه القمح المنتور) أي:
هاتور شهر زراعة القمح ونثر بذوره في الأرض. وفيه أيضاً يتم زراعة الشعير والعدس
والحُمّص.
4-كيهك
(10 ديسمبر – 8 يناير) : شهر السمك، ويُنطق أيضاً (كياح) أو (كياهك)، وقيل فيه
(كياح ينوّم الكلب النَبّاح)، وذلك لشدة البرد لكونه يأتي في قلب الشتاء.
5-طوبه
(9 يناير – 7 فبراير) : شهر الماء البارد، وفيه قيل على لسان الماعز، إذ تحدّثت
وقالت (عَدّت عليّ طوبة .. ما بَلِّت لي عرقوبة) أي لم أشعر في شهر
"طوبه" بالبرد مطلقاً. ويأتي الرد فيقول (هَجِيبْلِك عَشَرة من أمشير ..
يطلِّع جلدك نَسير نَسير) أي أن أول عشر أيام من شهر "أمشير" تأتي باردة
جداً وفيها سيتمزق جلدكِ حتماً أيتها الماعز المتمردة !.
6-أمشير
(8 فبراير – 9 مارس) : المُقترن ذكره بحيوان "الخروف"، وفيه تبدأ الزروع
في الإيناع والإثمار، وهو الشهر المُفضل لإجراء عملية "شتْل" الأشجار.
وأول عشر أيام من شهر أمشير تمتاز بشدة البرد، حتى قيل فيها المثل السابق ذكره عند
الحديث عن شهر "طوبه".. فليُنظر.
7-برمهات
(10 مارس – 8 أبريل) : أو برهمات، وهو شهر اللبن، وقيل فيه (برمهات .. اطلع من
البيت وهات) وذلك لكونه موسم قطف أول تباشير مزروعات الفول والعدس، وهما من
الأكلات الرئيسة لأهل مصر.
8-برموده
(9 أبريل – 8 مايو) : شهر الزهور والورود، وقيل فيه (إن جه برموده .. ما تفضل في
الحَرَجة ولا عودة) والحرجة هي الأراضي المزروعة، ولعل مردّ هذا القول لكون شهر
برموده هو شهر الحصاد، فلا تبقى بعده أي بقايا من المحاصيل "عودة" في
الغيطان "الحرجة".
9-بشنس
(9 مايو – 7 يونيو) : شهر النبق "السِدر"، وفيه تتم زراعة المحاصيل
الصيفية، مثل القطن، السمسم، الملوخِيّة، الذرة العويجة "القِيضي"،
ولعلها سُمّيت بالقيضي نِسبة إلى "القيظ والحرارة" لأنها تُزرع صيفاً.
10-بؤونة
(8 يونيو – 7 يوليو) : شهر التين، وفيه تكون بداية فيضان النيل، وهو أشد شهور
العام حرارة، حتى ضُرب به المثل في شدة الحَر، فقيل (أشد من زَهجِة بؤونة) والزهجة
هي شدة الحرارة، وقيل أيضاً (ولا شمس بؤونة).
11-أبيب
(8 يوليو – 6 أغسطس) : شهر العسل، وقيل فيه (أبيب شهر البلح الرطيب) لكونه يأتي في
موسوم جني البلح الرطب. وفيه تتم زراعة الذرة الشامية "البَرّ الدميري"،
و"البَر" كلمة ذات أصل عربي فصيح وهي "البُر" وهو نبات الذرة.
12-مسرى
(7 أغسطس – 5 سبتمبر) : شهر العنب، وفيه يكون جَني زراعات الصيف.
من
الغريب أو لعل الأصح أن نقول (ليس من الغريب) أن نجد توافقاً بين الفصول والشهور
وبين المأكولات الشعبية، ففي شهور القيظ والحرارة تكثُر الوجبات المُملّحة
والحارة، مثل السمك المُملّح "الملوحة"، واللبن المُتخثِّر شديد الملوحة
"المِشْ".
أما في
فصل الشتاء، فتتصدر "المديدة" و"الكباب" قائمة المشهد!، أما
المديدة فهي نوعان: مديدة بالبلح، ومديدة باللبن، وعنصرها الرئيسي هو دقيق الذرة
القيضي "الصيفي"، ويُعصد مع الماء والتمر، أو اللبن. أما الكباب فهو غير
كباب اليوم!، ويتكون من ذرة دميري (شتوية، وذلك لطِيب رائحتها) مُحمّصة ومطحونة،
ومعها بعض البصل الأخضر، ولا توجد في هذا الكباب أيّة لحوم، وموعد تناوله المناسب
هو الشهور الأخيرة من فصل الشتاء "طوبة وأمشير".
أما
الخُبز فقد عُرف بإسم (البِتَّاو)، ومنه نوع فاخر يُعَدّ من "البَر
الدميري" الشتوي، ونوع آخر أقل جودة يُعدّ من "الذرة القيضي"
الصيفية، وخُبز البِتّاو يجِف سريعاً بخلاف خُبز القمح.
بحث وتحقيق واعداد: أحمد عبد النبي فرغل الدعباسي
عضو اللجنة العلمية لبحوث التاريخ والأنساب بالسجادة العنانية العمرية
يوم السبت 26 ديسمبر 2015 م