عَلَمُ الأشياخ ، ظَليلُ الـمَدافِع : " الشيخ سعد مهدي آدم الشَرْوَني الجعفري "
من أين أبدأ ؟ لستُ أدري ! ، ماذا أكتبُ ؟ ماذا أتركُ ؟ لست أدري !
لكن الشيء بالشيء يُذكر، فهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، تبدأ معرفتي به برؤيا، وتنتهي بتأويل رؤيا، حتى إذا ما تَمَّت النعمة كان تمام الأجل، كيوسف إذ قال: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [سورة يوسف: آية 101].
يقول الشاعر [بتصرّف يسير]:
بارق الشام إلى [الصعيد] سرى ... فروى عن [آل شَرْوَن] خبرا
غنّ لي يا حادي العيس ولا ... تهمل السَّير فقد طال السُّرى
وأعِدْ أخبار [الأحبة] إنَّها ... تُجبر القلب إذا ما انكسرا
كيف لا أعشق أرضاً أهلها ... شملت ألطافُهم كلَّ الورى
قلْ بهم ما شئت واذكر فضلهم ... إنَّ كلّ الصيد في جوف الفرا
كَرُموا أصلاً وطابوا مغرساً ... وعَلَوْا قدراً وجادوا عُنصرا
قسماً بالزُّهر من أجدادهم ... من به طابَ ثرى أمّ القرى
مدحهم ذخري وديني حبُّهم ... يا ترى هل يقبلون يا ترى ؟
وإذا انجرت أحاديثُهُم ... لا تسل عن مقلتي عمَّا جرى
شرفوا الأرض ومِن هذا نرى ... منهمُ في كلِّ حيٍّ أثرا
بضعة السادات من أهل العبا ... كوكب الإشراق تاج الأُمَرا
عَلَمُ الأشياخ سلطان الحمى ... غوث أهل الشرق شيخ الفقرا
عصبة من آل خير الأنبيا ... عَزَّ من يغدو بهم مفتخرا
رأيتُ فيما يرى النائم أنّي هناك، في بيت ذلك الشيخ الذي لم ألتقيه سوى مرة، ولم أذهب لدياره قط، رأيت لداره بابين، دخلت من الثاني، وكان بيته أيمن الطريق، وتُحازِي حارته أخرى، ومن ورائهما مكان وسيع، به من الجانبين: بنايتان كبيرتان بيضاوان اللون. قمتُ من نومي واتصلت بهاتف الشيخ وأخبرته، فقال: يكن خيراً إن شاء الله، ولم يزد.
قصصتُ رؤياي على رفيقي "الشاذلي بن عباس الجعفري القنائي"، فقال عمّا قريب نذهب ونرى صدق رؤياك، ثم لم نلبث أن ذهبنا وأخ لنا من أشراف إسنا، حتى نزلنا ديار السادة الشراونة الجعافرة بشرق مركز إدفو بمحافظة أسوان، فوجدنا المكان الوسيع، وعن يمينه المبنى الأبيض وكان مدرسة، وعن يساره المبنى الأبيض وكان ملعب كرة، وأمامنا كانت الحارتان، فقال لي رفيقي: تقدم وأرنا بيت الشيخ سعد، فأشرتُ إلى الحارة اليمنى، فنظرتُ فإذ بيوتها عن اليمين فقط، ثم أشرت إلى ثاني باب، فقال صاحبي: اطرق الباب. فخفت ألّا يكون هو!، فقال: اطرق. فطرقتُ، فخرج لنا الشيخ، رحمه الله رحمة واسعة، وكان هذا الباب هو باب مكان الضيوف، وقبله باب أهل بيته الخاص.
عرفته في أواخر حياته، شيخاً دهمه الكِبر وزانه الشيب، إلا أن داخله كان فتياً، كأنّه في عنفوان الصِبا وريعان الشباب، يحرص على تعلُّم كل جديد ومستحدث ونافع، وكان يحزن أنه لم يدرس في الجامعات، وقال: لو كان في العُمر فسحة وفي الإمكان سبيل أن أدرس وأستزيد من العلم لفعلت، وكان ينصحني بطلب العلم على كل حال ووقت وظَرْف.
وُلِد شيخنا السيد الشريف سعد بن مهدي بن آدم بن عبد المنعم بن جودة آل مِرِيخ الشَرْوَنِي الجَعفري الصادقي الحسيني ببلدة الشراونة، حيث مستقر أجداده بنو شَرْوَن بن محمد بن الأمير حمد الجعفري الرضوي الموسوي الحسيني، منذ نزولهم من بلاد البحيرة بدلتا مصر إلى أقاصي صعيد مصر الأعلى، وبلدته قسمان: بحري وقبلي، بقبليها كان منزل شيخنا.
ترعرع الشيخ في بيت علمي صوفي، فجده الشيخ آدم بن عبد المنعم الشروني كان نَسّاب السادة الجعافرة، وله تدوينات وتوقيعات على كثير من جرائد النسب الشريف، وقد طالعتُ بعض أصولها ومصورات عنها بمكتبة حفيده الشيخ سعد، وهي مكتبة حافلة بفرائد ودرر جرائد الأنساب.
وكان لجده آدم أخ من أمه، كان من أولياء الله السائحين، لا يستقر ببلد، واسمه: الطيب أحمد بن عبيد البغدادي الجعفري الحسيني نسباً، النقشبندي طريقة، وكان مجاهداً ثائراً في زمن تفشّى فيه الظلم والخنوع، وقصته ببلدة "قاو الخراب" مشهورة، حينما التجأت إليه فتاة مُسلمة تحتمي به من رجل نصراني أراد النيل من عفتها، فقتله الشيخ الطيب بعرجون نخلة تحوّل في يده لسيف صلت، وكان من أمره ما كان، وقد سُطرت بعض أخباره وأخبار أبيه عبيد البغدادي – الذي كان من أبطال إحدى الثورات أيضاً – في مصنفات لباحثين عرب ومستشرقين. وقد رأيت بعض قصائد الشيخ الطيب أحمد في التصوف والزهد بمنزل شيخنا.
أما جهاده وبسالته، فقد كانت مثار العجب والإعجاب، فكان شيخي الشريف سعد ممن شهد حرب مصر واليهود، حرب العاشر من رمضان في أكتوبر من عام 1973 م، طلبتُ من شيخي أن يُحدثّني عنها، فقال أنه كان ضمن سلاح المدفعية، وكان من فرط سعادته بنشوب حرب الكرامة هذه ينام أسفل المدافع هو وبعض رفقته، رغم أن التعليمات تقتضي بالنوم بعيداً عنها تحسباً لقذفها من طائرات العدو، إلّا أن حماسته وشجاعته جعلته ورفقته لا يهابون الموت، وينامون تحت ظلال السيوف والمدافع، والله أسأل أن يبلّغه – وإخوانه – منازل ودرجات الشهداء، آمين.
أما مذهبه: فقد عُرِفَت أسرة الشيخ سعد بانتهاج طريق السادة النقشبندية في الطريق، ويظهر ذلك في كون الشيخ الطيب أحمد كان نقشبندياً، وكان يُحدثني الشيخ سعد أن طريقتهم هذه تتفرد عن غيرها من الطرق بأمرين متميزين، أولاهم: أن سندها يمتد لسيدنا أبي بكر الصديق دون سائر الطرق التي ينتهي سندها لسيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنهم. وآخراهم: أن "خَلْوَتهم في جَلْوَتهم"، أي أنهم لا يتبعون نظام الخَلْوة في التعبد، بل يخالطون الناس في جلاء، ويختلون في عبادتهم بقلوبهم. وقد سألته ذات مرة: هل طريقتكم هذه أفضل الطرق؟ فقال – وهو العالم العارف – لا، بل كلهم سواء، وفي كلهم خير، وكلهم ينتهون إلى مَشرب ومَعِين واحد، صلى الله عليه وسلم. فعجبتُ لعدم تعصبه لأهل طريقته.
ورث الشيخ سعد من أسلافه حُب علم الأنساب، والعناية به وتدوينه، فورث عنهم سدانة نسب السادة الشراونة الأشراف، فلديه سجل أنسابهم، يُقيد فيه كل مولود يُولد، كما كان له اطلاع واسع في أنساب الأشراف عموماً، وأنساب السادة الجعافرة بالصعيد خصوصاً، فكان من أساطين هذا العلم، مقصداً للطُلّاب والباحثين.
بل إن عناية الشيخ سعد بالأنساب بلغت منزلة عجيبة، فقد أخبرني رفيقي السيد الشاذلي عباس أنه وجد بمكتبة الشيخ سعد جرد أنساب به أسماء نصرانية، فاستفسر من شيخه عن ذلك، فقال أنه جرد لنصارى قرية الشراونة، كتبه الشيخ سعد ليحفظ أنسابهم، فهم من أهل بلدته ولهم عليه حق العناية بأنسابهم. وقد ألتمستُ طريق شيخي الشريف سعد مهدي فهو القدوة الحسنة، وبدأتُ بحول الله تصنيف كتاب في أنساب نصارى بلدتي "نقادة"، وأسميته بكتاب "أقباط نقادة"، واسأل الله الإعانة لإتمامه.
أما عن مذهبه، فكان كأسلافه وكغالبية أهل الصعيد مالكي المذهب، وقد كان جده الشيخ آدم بن عبد المنعم من علماء المالكية في بلاده وزمانه.
كما كان الشيخ سعد من العارفين بالتأويل، وأعجبُ ما رأيت في ذلك أنني أخبرته عن رؤيا رأيتُ فيها سيدنا أبي بكر الصديق وابنتيه: عائشة وأم كلثوم، في أحداث طويلة، فأوّلها لي تأويلاً عجيباً، فقال لي: أنت قد أوشكت على الانتهاء من تصنيف كتابك: " السلالة البكرية الصديقية " فهل ترجمتَ فيه لنساء آل الصديق؟ فقلت له: لم أفعل ذلك ولم أترجم لأي سيدة من نساء هذا البيت. فقال: إذن افعل وترجم لهن. فشرعتُ في ذلك، وكان هو آخر ما تم تصنيفه في الكتاب، وعندما تمت طباعته ذهبت لشيخي لأهديه نسخة من الكتاب، وكان هذا آخر عهدي به، فلم يلبث بعدها إلا قرابة الشهرين حتى توفاه الله إلى رحمته، فكانها كانت رسالة أدّاها هذا الشيخ الجليل، رحمه الله .
فكان – رحمه الله – عوناً لي ولغيري من طلبة علم الأنساب، لا يألوا جهداً في المساعدة، ومنح المعلومة، والإرشاد والتقويم. وأذكر أنني عرضتُ عليه أحد البحوث التي نشرتها بكتاب السلالة البكرية، وكانت مِن شِقّين وبها إشكالين، أحدهما متعلق بالنسب البكري الصديقي والآخر متعلق بالنسب الجعفري الحسيني، فطلب مني مناقشة ودراسة الإشكال الآخر أيضاً، فقلت له إنه خارج إطار مضمون الكتاب. فقال: إنه قد أُتيح لك اليوم ما قد لن يُتاح لغيرك مستقبلاً، وإن القارئ في الزمن اللاحق قد ينظر لكتابك، فيجدك تناولت الشق المطلوب من البحث والمناسب لكتابك، إلّا أن الشِق الذي تركته قد يهم آخرين، وسيتمنون حينها لو أنك بذلت جهداً قليلاً وسطوراً قلائل في دراسة هذا الجانب، فلا تبخل على القارئ، فاستجبتُ له، وجعلته من منهجي في التصنيف، فرضي الله عنك شيخي ورحمك واسع الرحمات.
وقد ختم الله له بالصالحات، فتوفي عقب توفيقه في إصلاح ذات بين متخاصمين من بني قومه وقريته، كاد أن يكون بينهما قتال ودماء، فوقف الشيخ بين الصفين المُتحاجزين، وخلع عمامته وألقاها أرضاً، وقال لن تتقاتلوا إلا على جثتي!، فأذعن له القوم وتراضوا به حكماً ومصلحاً، فاللهم ارض عنه، وبارك في ذريته ونسله، واحشره في زمرة الصالحين وجده سيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وكتبه تلميذه : أحمد بن عبد النبي ابن فرغل الدعباسي
يوم الثلاثاء 19 نوفمبر 2019 م
حياك الله ... مقال جميل ممتع ..الله اغفر له و ارحمه .
ردحذفمقال جميل رحم الله عمنا وشيخا الشيخ سعد مهدي
ردحذف