أثناء مراجعتي النهائية لكتابي الجديد "كُنّاشة الدعباسي" مررت ببحث قديم لي لاقى رواجاً كبيراً جداً على الإنترنت، وهو عن الإثنيات العرقية والتقسيمات العرقية بصعيد مصر ... مررت على الجزئية الخاصة ببلاد النوبة في البحث ، فأبحرت مع الكلمات إلى بلاد النوبة القديمة (التي تقبع الآن تحت مياه بحيرة السد العالي) حيث الرجال الأمناء والنساء العفيفات ... إلى النوبيين الذي عيّرهم المصريون بما هو مكرمة في حقهم وليس سبة في جبينهم !
دعونا نقرأ ... من الكُنّاشة قبل طباعتها في حلتها الأخيرة !
==========
7- الـنـوبة : وهم شعب عظيم له تاريخ قديم منذ عصور الفراعنة أو ما قبل ذلك , وله لغة خاصة به ، لغة منطوقة غير مدوّنة ، ولهم ديار كبيرة شاسعة بأقصى جنوب مصر (ديارهم الأصلية تقبع الآن أسفل مياه بحيرة السد العالي) , وكانت لهم شوكة وقوة في سالف العصر , فلم يستطع العرب المسلمون فتح بلادهم إلا بعد قرون طويلة وعناء شديد. واليوم أغلبهم يتواجدون بجنوبي مصر وشمالي السودان , وأشهرهم فريقان : الفاجوك والكنوز , أما الكنوز فهم قبائل عربية من بني ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان ، خالطت النوبة فصاروا في عدادهم واكتسبوا البشرة السوداء من كثرة تزاوجهم معهم. ولكل من الفاجوك والكنوز لغته المحلية "لهجته النوبيّة" الخاصة به .
والنوبيون أهل كرم وضيافة ، وأدب وأمانة ، فتشتهر نسائهم بالعفة ، ورجالهم بالأمانة ، وكلاهما بمحاسن الأخلاق.
وقد كانت للرحالة الأوروبي الشهير "بوركهارت" شهادة في حق نساء النوبة ، سجّلها في كتابه عن رحلته لبلاد النوبة ، آثرت نقلها لُحسن ما جاء فيها من محاسن القوم. يقول بوركهارت: (أما النساء فلهن قامات بديعة ، ووجوه طلقة حلوة وإن لم تكن جميلة ، وطباع لطيفة غاية اللطف ، بل إنني رأيت بينهن حِساناً بارعات الجمال ، ولست أشك في أن دينون قد غمطهن حقهن. ولكن العمل الشاق الذي يقمن به منذ طفولتهن يضنينهن ، فشئون البيت كلها موكولة إليهن ، أما الرجال فمنقطعون للزراعة.
ونساء النوبة أعف نساء الشرق قاطبة ، وعفتهن أجدر بالإشادة لِما كان ينتظر من تأثرهن بجيرة صعيد مصر الذي يشتد فيه تأثير الغريزة الجنسية. وفي أثناء مكثي "بإسنا" كان الفتيات يأتين إلى مسكني كل صباح ليبعنني اللبن ، فكانت المصريات منهن تقتحمن فناء الدار في جرأة وتسفرن عن وجوههن ، وهم مسلك يفهم منه هنا أنهن يعرضن أنفسهن ، أما النوبيات – وكثيرات منهم يقمن مع أسرهن في إسنا – فكن يقفن بعتبة البيت متأدبات لا يتجاوزنها بحال من الأحوال ، ويأخذن ثمن ما بعن من لبن وهن مقنعات) اهـ.
وقال بوركهارت عن رجال بلاد النوبة: (ولولا طغيان الحكومة – المصرية – واستبدادها لكان النوبيون جيراناً خطرين على مصر ، فهم يمتازون عن المصريين بالجرأة وحب الاستقلال وشدة التعلق بأرضهم ، ويفد على القاهرة منهم كثيرون كل عام، فيشتغل معظمهم بوابين ، وهم في ذلك مفضلون على المصريين لأمانتهم ، وبعد أن يقيموا بها ست سنوات أو ثمانية يعودون إلى مسقط رءوسهم بما أصابوا من مال قليل ، مع علمهم بأنهم لن يظفروا في وطنهم بغير خبز الذرة وجلباب الكتان عوضاً عما ينعمون به من أطايب القاهرة) اهـ.
ويقول أيضاً: (وقد رأيت في معظم النوبيين رقة ولطفاً وعزوفاً عن السرقة ، وهي رذيلة معروفة في مصر ، أو على الأقل في الأقاليم الواقعة إلى الشمال من أسيوط. والحق أن السرقة تكاد تكون معدومة بينهم ، فإذا ثبت أن منهم من اقترف هذا الجرم طرد من قريته بالإجماع ، ولم يضع في أثناء رحلتي في النوبة شيء مما أحمل مهما تفه ، مع أنني كنت أنام في العراء أمام البيت الذي أحط عنده ، وفي النوبيين عموماً كرم وحسن ضيافة للطارق) اهـ.
8- البرابرة : وهو لقب مشتق من كلمة "البربر" ، كنسب أو كصفة . فالنسب هو "البربر الأمازيغ" سكان بلاد المغرب العربي والواحات الغربية لمصر.
ولكن لكلمة "البرابرة" هذه مدلول خاص جدا بالصعيد ؛ مدلول قد لا يعلمه كثير من الناس من سوى أهل الصعيد , فكلمة البرابرة تعني "شعب النوبة" ، وهم أصحاب لهجة شبيهة بكلام ولهجة "البربر" . فأصبح يُطلق على أهل النوبة لقب "البرابرة".
وعن ذلك يقول الرحالة الأوروبي بوركهارت في رحلاته لبلاد النوبة: (يُطلق المصريون على سكان وادي النوبة ووادي الكنوز حتى دنقلة اسم "البرابرة" ، ولكن هذا اللفظ قلما يستعمله الوطنيون أنفسهم حين يتكلمون عن أمتهم . ولعل اللفظ مشتق من اسم إقليم "بربر" الواقع في اتجاه "القوز" التي ذكرها الرحالة بروس. ويعتبر أهل "بربر" أحياناً نوبيين) اهـ.
وأقول: إن أهل النوبة ينفرون أشد النفور من هذا الإسم أو هذا اللقب ! , وحالياً لم هناك من يستخدم هذا المصطلح سوى كبار السن من أهل الصعيد ، وما ذكرته هاهنا إلا للضرورة البحثية التي تستدعي التدوين لماجريات وأحداث التاريخ.
=======
#الدعباسي